الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطُّورِ: 48]. وَقَالَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزُّمَرِ: 36]. قِيلَ: بِكَافٍ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَقَالَ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الْحِجْرِ: 95]. وَقَالَ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الْأَنْفَالِ: 30] الْآيَةَ. [أَخْبَرَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، وَالْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعَافِرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصَّيْرَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ]، عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67] فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْصَرِفُوا، فَقَدْ عَصَمَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ». وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا اخْتَارَ لَهُ أَصْحَابُهُ شَجَرَةً يَقِيلُ تَحْتَهَا، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: «اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» فَرَعَدَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ، وَسَقَطَ سَيْفُهُ، وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى سَالَ دِمَاغُهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ ، وَأَنَّ غَوْرَثَ بْنَ الْحَارِثِ صَاحِبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ. وَقَدْ حُكِيَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ، وَأَنَّهَا جَرَتْ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدِ انْفَرَدَ مِنْ أَصْحَابِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ... وَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ مِثْلُهَا فِي غَزْوَةِ غَطَفَانَ بِذِي أَمْرٍ، مَعَ رَجُلٍ اسْمُهُ دَعْثُورُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ أَسْلَمَ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ أَغْرَوْهُ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ، وَأَشْجَعَهُمْ، قَالُوا لَهُ: أَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ، وَقَدْ أَمْكَنَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ أَبْيَضَ طَوِيلٍ دَفَعَ فِي صَدْرِي، فَوَقَعْتُ لِظَهْرِي، وَسَقَطَ السَّيْفُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ مَلَكٌ، وَأَسْلَمْتُ. وَفِيهِ نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [الْمَائِدَةِ: 11] الْآيَةَ. وَفِي رِوَايَةِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ غَوْرَثَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُحَارِبِيَّ أَرَادَ أَنْ يَفْتِكَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ مُنْتَضِيًا سَيْفَهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِ بِمَا شِئْتَ» فَانْكَبَّ مِنْ وَجْهِهِ مِنْ زُلَّخَةٍ زُلِّخَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَنَدَرَ سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ. الزُّلَّخَةُ: وَجَعُ الظَّهْرِ. وَقِيلَ فِي قِصَّتِهِ غَيْرُ هَذَا وَذُكِرَ فِيهِ نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} [الْمَائِدَةِ: 11] الْآيَةَ. وَقِيلَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخَافُ قُرَيْشًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اسْتَلْقَى، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ شَاءَ فَلْيَخْذُلْنِي». وَذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: كَانَتْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ تَضَعُ الْعِضَاةَ، وَهِيَ جَمْرٌ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّمَا يَطَؤُهَا كَثِيبًا أَهْيَلَ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهَا أَنَّهَا لَمَّا بَلَغَهَا نُزُولُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [الْمَسَدِ: 1]، وَذِكْرُهَا بِمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ مَعَ زَوْجِهَا مِنَ الذَّمِّ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَفِي يَدِهَا قِصْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ. فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا لَمْ تَرَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، وَأَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى بِبَصَرِهَا عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَهْجُونِي، وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَضَرَبْتُ بِهَذَا الْقِدْرِ فَاهُ. وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: تَوَاعَدْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا رَأَيْنَاهُ سَمِعَنَا صَوْتًا خَلْفَنَا مَا ظَنَنَّا أَنَّهُ بَقِيَ بِتِهَامَةَ أَحَدٌ، فَوَقَعْنَا مَغْشِيًّا عَلَيْنَا، فَمَا أَفَقْنَا حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. ثُمَّ تَوَاعَدْنَا لَيْلَةً أُخْرَى، فَجِئْنَا حَتَّى إِذَا رَأَيْنَاهُ جَاءَتِ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةُ، فَحَالَتْ بَيْنَنَا، وَبَيْنَهُ. وَعَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: تَوَاعَدْتُ أَنَا وَأَبُو جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ لَيْلَةً قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْنَا مَنْزِلَهُ، فَسَمِعْنَا لَهُ، فَافْتَتَحَ، وَقَرَأَ: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الْحَاقَّةِ: 1- 2] إِلَى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الْحَاقَّةِ: 8]. فَضَرَبَ أَبُو جَهْمٍ عَلَى عَضُدِ عُمَرَ، وَقَالَ: انْجُ، وَفَرَّا هَارِبَيْنِ، فَكَانَتْ مِنْ مُقَدِّمَاتِ إِسْلَامِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَمِنْهُ الْعِبْرَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْكِفَايَةُ التَّامَّةُ عِنْدَمَا أَخَافَتْهُ قُرَيْشٌ، وَأَجْمَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ، وَبَيَّتُوهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ، وَذَرَّ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَخَلَصَ مِنْهُمْ. وَحِمَايَتُهُ عَنْ رُؤْيَتِهِمْ فِي الْغَارِ بِمَا هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنَ الْعَنْكَبُوتِ الَّذِي نَسَجَ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ حِينَ قَالُوا: نَدْخُلُ الْغَارَ: مَا أَرَبُكُمْ فِيهِ، وَعَلَيْهِ مِنْ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ مَا أَرَى أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ مُحَمَّدٌ. وَوَقَعَتْ حَمَامَتَانِ عَلَى فَمِ الْغَارِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَوْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ لَمَا كَانَتْ هُنَاكَ الْحَمَامُ. وَقِصَّتُهُ مَعَ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حِينَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ جَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ، وَفِي أَبِي بَكْرٍ الْجَعَائِلَ، فَأُنْذِرَ بِهِ، فَرَكِبَ فَرَسَهُ، وَاتَّبَعَهُ حَتَّى إِذَا قَرُبَ مِنْهُ دَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ، فَخَرَّ عَنْهَا، وَاسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ، فَخَرَجَ لَهُ مَا يَكْرَهُ. ثُمَّ رَكِبَ، وَدَنَا حَتَّى سَمِعَ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَلْتَفِتُ، وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُتِينَا. فَقَالَ: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» فَسَاخَتْ ثَانِيَةً إِلَى رُكْبَتَيْهَا، وَخَرَّ عَنْهَا، فَزَجَرَهَا فَنَهَضَتْ، وَلِقَوَائِمِهَا مِثْلُ الدُّخَانِ فَنَادَاهُمْ بِالْأَمَانِ فَكَتَبَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانًا، كَتَبَهُ ابْنُ فُهَيْرَةَ، وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَخْبَرَهُمْ بِالْأَخْبَارِ، وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَتْرُكَ أَحَدًا يَلْحَقُ بِهِمْ. فَانْصَرَفَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: كُفِيتُمْ مَا هَهُنَا. وَقِيلَ: بَلْ قَالَ لَهُمَا: أَرَاكُمَا دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي. فَنَجَا، وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ظُهُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: أَنَّ رَاعِيًا عَرَفَ خَبَرَهُمَا، فَخَرَجَ يَشْتَدُّ، يُعْلِمُ قُرَيْشًا، فَلَمَّا وَرَدَ مَكَّةَ ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ، فَمَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ، وَأُنْسِيَ مَا خَرَجَ لَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ. وَجَاءَهُ- فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُ- أَبُو جَهْلٍ بِصَخْرَةٍ، وَهُوَ سَاجِدٌ، وَقُرَيْشٌ يَنْظُرُونَ، لِيَطْرَحَهَا عَلَيْهِ، فَلَزِقَتْ بِيَدِهِ، وَيَبِسَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، وَأَقْبَلَ يَرْجِعُ الْقَهْقَرَى إِلَى خَلْفِهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَتْ يَدَاهُ، وَكَانَ قَدْ تَوَاعَدَ مَعَ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ، وَحَلَفَ لَئِنْ رَآهُ لَيَدْمَغَنَّهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ شَأْنِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، هَمَّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ، لَوْ دَنَا لَأَخَذَهُ». وَذَكَرَ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلَهُ، فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَى بَصَرِهِ، فَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَ قَوْلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ. وَذُكِرَ أَنَّ فِي هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ نَزَلَتْ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} [يس: 8] الْآيَتَيْنِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ، وَغَيْرُهُ فِي قِصَّتِهِ، إِذْ خَرَجَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فِي أَصْحَابِهِ، فَجَلَسَ إِلَى جِدَارِ بَعْضِ آطَامِهِمْ، فَانْبَعَثَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ أَحَدُهُمْ لِيَطْرَحَ عَلَيْهِ رَحًى، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِقِصَّتِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} [الْمَائِدَةِ: 11] فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ نَزَلَتْ. وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُ فِي عَقْلِ الْكِلَابِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ لَهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ: اجْلِسْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَتَّى نُطْعِمَكَ، وَنُعْطِيَكَ مَا سَأَلْتَنَا. فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَتَوَامَرَ حُيَيٌّ مَعَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، فَأَعْلَمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَامَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ حَاجَتَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ. وَذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَعَدَ قُرَيْشًا لَئِنْ رَأَى مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَيَطَأَنَّ رَقَبَتَهُ. فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُوهُ، فَأَقْبَلَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ، وَلَّى هَارِبًا نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ، مُتَّقِيًا بِيَدَيْهِ، فَسُئِلَ فَقَالَ: لَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ أَشْرَفْتُ عَلَى خَنْدَقٍ مَمْلُوءٍ نَارًا كِدْتُ أَهْوِي فِيهِ، وَأَبْصَرْتُ هَوْلًا عَظِيمًا، وَخَفْقَ أَجْنِحَةٍ قَدْ مَلَأَتِ الْأَرْضَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ، لَوْ دَنَا لَاخْتَطَفَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا». ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [الْعَلَقِ: 6] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ ; وَيُرْوَى أَنَّ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ الْحَجَبِيَّ أَدْرَكَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَكَانَ حَمْزَةُ قَدْ قَتَلَ أَبَاهُ، وَعَمَّهُ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ مُحَمَّدٍ. فَلَمَّا اخْتَلَطَ النَّاسُ أَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَرَفَعَ سَيْفَهُ لِيَصُبَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ ارْتَفَعَ إِلَيَّ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ، فَوَلَّيْتُ هَارِبًا، وَأَحَسَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي، وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، فَمَا رَفَعَهَا إِلَّا وَهُوَ أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَقَالَ لِي: «ادْنُ فَقَاتِلْ» فَتَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي وَأَقِيهِ بِنَفْسِي، وَلَوْ لَقِيتُ أَبِي تِلْكَ السَّاعَةَ لَأَوْقَعْتُ بِهِ دُونَهُ. وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عَمْرٍو: أَرَدْتُ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ قَالَ: «أَفَضَالَةُ؟» قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «مَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟» قُلْتُ: لَا شَيْءَ. فَضَحِكَ، وَاسْتَغْفَرَ لِي، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي، فَسَكَنَ قَلْبِي، فَوَاللَّهِ مَا رَفَعَهَا حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ. وَمِنْ مَشْهُورِ ذَلِكَ خَبَرُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ حِينَ وَفَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عَامِرٌ قَالَ لَهُ: أَنَا أَشْغَلُ عَنْكَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ، فَاضْرِبْهُ أَنْتَ. فَلَمْ يَرَهُ فَعَلَ شَيْئًا، فَلَمَّا كَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَهُ إِلَّا وَجَدْتُكَ بَيْنِي، وَبَيْنَهُ، أَفَأَضْرِبُكَ؟!. وَمِنْ عِصْمَتِهِ لَهُ تَعَالَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ، وَالْكَهَنَةِ أَنْذَرُوا بِهِ، وَعَيَّنُوهُ لِقُرَيْشٍ، وَأَخْبَرُوهُمْ بِسَطْوَتِهِ بِهِمْ، وَحَضُّوهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى بَلَغَ فِيهِ أَمْرَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ نَصْرُهُ بِالرُّعْبِ أَمَامَهُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ الْبَاهِرَةِ مَا جَمَعَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْمَعَارِفِ، وَالْعُلُومِ، وَخَصَّهُ بِهِ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَالدِّينِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِأُمُورِ شَرَائِعِهِ، وَقَوَانِينِ دِينِهِ، وَسِيَاسَةِ عِبَادِهِ، وَمَصَالِحِ أُمَّتِهِ، وَمَا كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَهُ، وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ، وَالْجَبَابِرَةِ، وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى زَمَنِهِ، وَحِفْظِ شَرَائِعِهِمْ، وَكُتُبِهِمْ، وَوَعْيِ سِيَرِهِمْ، وَسَرْدِ أَنْبَائِهِمْ، وَأَيَّامِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَصِفَاتِ أَعْيَانِهِمْ، وَاخْتِلَافِ آرَائِهِمْ، وَالْمَعْرِفَةِ بِمُدَدِهِمْ، وَأَعْمَارِهِمْ، وَحِكَمِ حُكَمَائِهِمْ، وَمُحَاجَّةِ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَمُعَارَضَةِ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنَ الْكِتَابِيِّينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَإِعْلَامِهِمْ بِأَسْرَارِهَا، وَمُخَبَّآتِ عُلُومِهَا، وَإِخْبَارِهِمْ بِمَا كَتَمُوا مِنْ ذَلِكَ، وَغَيَّرُوهُ. إِلَى الِاحْتِوَاءِ عَلَى لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَغَرِيبِ أَلْفَاظِ فِرَقِهَا، وَالْإِحَاطَةِ بِضُرُوبِ فَصَاحَتِهَا، وَالْحِفْظِ لِأَيَّامِهَا، وَأَمْثَالِهَا، وَحِكَمِهَا، وَمَعَانِي أَشْعَارِهَا، وَالتَّخْصِيصِ بِجَوَامِعِ كَلِمِهَا. إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ، وَالْحِكَمِ الْبَيِّنَةِ لِتَقْرِيبِ التَّفْهِيمِ لِلْغَامِضِ، وَالتَّبْيِينِ لِلْمُشْكِلِ، إِلَى تَمْهِيدِ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الَّذِي لَا تَنَاقُضَ فِيهِ، وَلَا تَخَاذُلَ، مَعَ اشْتِمَالِ شَرِيعَتِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَامِدِ الْآدَابِ، وَكُلِّ شَيْءٍ مُسْتَحْسَنٍ مُفَضَّلٍ، لَمْ يُنْكِرْ مِنْهُ مُلْحِدٌ ذُو عَقْلٍ سَلِيمٍ شَيْئًا إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْخِذْلَانِ. بَلْ كُلُّ جَاحِدٍ لَهُ، وَكَافِرٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ بِهِ إِذَا سَمِعَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ صَوَّبَهُ، وَاسْتَحْسَنَهُ دُونَ طَلَبِ إِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَلَيْهِ. ثُمَّ مَا أَحَلَّ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَبَائِثِ، وَصَانَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَأَعْرَاضَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ مِنَ الْمُعَاقَبَاتِ، وَالْحُدُودِ عَاجِلًا، وَالتَّخْوِيفِ بِالنَّارِ آجِلًا مِمَّا لَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ، وَلَا يَقُومُ بِهِ، إِلَّا مَنْ مَارَسَ الدَّرْسَ، وَالْعُكُوفَ عَلَى الْكُتُبِ، وَمُثَافَنَةِ بَعْضِ هَذَا. إِلَى الِاحْتِوَاءِ عَلَى ضُرُوبِ الْعُلُومِ، وَفُنُونِ الْمَعَارِفِ، كَالطِّبِّ، وَالْعِبَارَةِ، وَالْفَرَائِضِ، وَالْحِسَابِ، وَالنَّسَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ مِمَّا اتَّخَذَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا قُدْوَةً، وَأُصُولًا فِي عِلْمِهِمْ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ. وَهِيَ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ» وَقَوْلِهِ: «الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ، رُؤْيَا حَقٍّ، وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلَ نَفْسَهُ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٍ مِنَ الشَّيْطَانِ». وَقَوْلِهِ: «إِذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ». وَقَوْلِهِ: «أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ». وَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ قَوْلِهِ: «الْمَعِدَةُ حَوْضُ الْبَدَنِ، وَالْعُرُوقُ إِلَيْهَا وَارِدَةٌ» وَإِنْ كَانَ هَذَا حَدِيثًا لَا نُصَحِّحُهُ لِضَعْفِهِ، وَكَوْنِهِ مَوْضُوعًا تَكَلَّمَ عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَوْلِهِ: «خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ، وَاللَّدُودُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالْمَشِيُّ». وَخَيْرُ الْحِجَامَةِ يَوْمَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَفِي الْعُودِ الْهِنْدِيِّ سَبْعَةُ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ. وَقَوْلِهِ: «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ،- إِلَى قَوْلِهِ- فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ». وَقَوْلِهِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ سَبَإٍ: أَرَجُلٌ هُوَ أَمِ امْرَأَةٌ، أَمْ أَرْضٌ؟ فَقَالَ: «رَجُلٌ وَلَدَ عَشْرَةً: تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ..». الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَكَذَلِكَ جَوَابُهُ فِي نَسَبِ قُضَاعَةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اضْطُرَّتِ الْعَرَبُ عَلَى شَغْلِهَا بِالنَّسَبِ إِلَى سُؤَالِهِ عَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: «حِمْيَرُ رَأْسُ الْعَرَبِ، وَنَابُهَا: وَمَذْحِجٌ هَامَتُهَا، وَغَلْصَمَتُهَا. وَالْأَزدُ كَاهِلُهَا، وَجُمْجُمَتُهَا، وَهَمْدَانُ غَارِبُهَا، وَذِرْوَتِهَا». وَقَوْلِهِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ». وَقَوْلِهِ فِي الْحَوْضِ: «زَوَايَاهُ سَوَاءٌ». وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الذِّكْرِ: «وَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَتِلْكَ مِائَةٌ، وَخَمْسُونَ عَلَى اللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ». وَقَوْلِهِ، وَهُوَ بِمَوْضِعٍ: «نِعْمَ مَوْضِعُ الْحَمَّامِ هَذَا». وَقَوْلِهِ «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ». وَقَوْلِهِ لِعُيَيْنَةَ، أَوِ الْأَقْرَعِ: «أَنَا أَفْرَسُ بِالْخَيْلِ مِنْكَ». وَقَوْلِهِ لِكَاتِبِهِ: «ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ، فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِلْمُمْلِي». هَذَا مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَكْتُبُ، وَلَكِنَّهُ أُوتِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى قَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ بِمَعْرِفَتِهِ حُرُوفَ الْخَطِّ، وَحُسْنِ تَصْوِيرِهَا: كَقَوْلِهِ: «لَا تَمُدُّوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رَوَاهُ ابْنُ شَعْبَانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي يُرْوَى عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «أَلْقِ الدَّوَاةَ، وَحَرِّفِ الْقَلَمَ، وَأَقِمِ الْبَاءَ، وَفَرِّقِ السِّينَ، وَلَا تُعْوِرِ الْمِيمَ، وَحَسِّنِ اللَّهَ، وَمُدَّ الرَّحْمَنَ وَجَوِّدِ الرَّحِيمَ». وَهَذَا، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْزَقَ عِلْمَ هَذَا وَيُمْنَعَ الْقِرَاءَةَ، وَالْكِتَابَةَ. وَأَمَّا عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ، وَحِفْظُهُ مَعَانِيَ أَشْعَارِهَا، فَأَمْرٌ مَشْهُورٌ، قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ أَوَّلَ الْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ حِفْظُهُ لِكَثِيرٍ مِنْ لُغَاتِ الْأُمَمِ، كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: «سَنَهْ، سَنَهْ» وَهِيَ حَسَنَةٌ بِالْحَبَشِيَّةِ. وَقَوْلِهِ: «وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ» وَهُوَ الْقَتْلُ بِهَا. وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَشْكَنْبَ دَرْدَ» أَيْ، وَجَعُ الْبَطْنِ بِالْفَارِسِيَّةِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مُمَا لَا يَعْلَمُ بَعْضَ هَذَا وَلَا يَقُومُ بِهِ، وَلَا بِبَعْضِهِ إِلَّا مَنْ مَارَسَ الدَّرْسَ، وَالْعُكُوفَ عَلَى الْكُتُبِ، وَمُثَافَنَةِ أَهْلِهَا عُمُرَهُ. وَهُوَ رَجُلٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أُمِّيٌّ، لَمْ يَكْتُبْ، وَلَمْ يَقْرَأْ، وَلَا عُرِفَ بِصُحْبَةِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَلَا نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عِلْمٌ، وَلَا قِرَاءَةٌ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَا عُرِفَ هُوَ قَبْلُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 48] الْآيَةَ. إِنَّمَا كَانَتْ غَايَةُ مَعَارِفِ الْعَرَبِ النَّسَبُ، وَأَخْبَارُ أَوَائِلِهَا، وَالشِّعْرُ، وَالْبَيَانُ وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ بَعْدَ التَّفَرُّغِ لِعِلْمِ ذَلِكَ، وَالِاشْتِغَالِ بِطَلَبِهِ، وَمُبَاحَثَةِ أَهْلِهِ عَنْهُ. وَهَذَا الْفَنُّ نُقْطَةٌ مِنْ بَحْرِ عِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى جَحْدِ الْمُلْحِدِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا وَجَدَ الْكَفَرَةُ حِيلَةً فِي دَفْعِ مَا نَصَصْنَاهُ إِلَّا قَوْلَهُمْ: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ: {[النَّحْلِ: 24، وَالْفُرْقَانِ: 5] {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النَّحْلِ: 103]. فَرَدَّ اللَّهُ قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 130]. ثُمَّ مَا قَالُوهُ مُكَابَرَةُ الْعِيَانِ فَإِنَّ الَّذِي نَسَبُوا تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ إِمَّا سَلْمَانُ، أَوِ الْعَبْدُ الرُّومِيُّ، وَسَلْمَانُ إِنَّمَا عَرَفَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَنُزُولِ الْكَثِيرِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَظُهُورِ مَا لَا يَنْعَدُّ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الرُّومِيُّ فَكَانَ أَسْلَمَ، وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ عِنْدَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، وَكِلَاهُمَا أَعْجَمِيُّ اللِّسَانِ وَهُمُ الْفُصَحَاءُ اللُّدُّ، وَالْخُطَبَاءُ اللُّسْنُ، قَدْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ مَا أَتَى بِهِ، وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، بَلْ عَنْ فَهْمِ وَصْفِهِ، وَصُورَةِ تَأْلِيفِهِ، وَنَظْمِهِ، فَكَيْفَ بِأَعْجَمِيٍّ أَلْكَنَ!. نَعَمْ، وَقَدْ كَانَ سَلْمَانُ، أَوْ بَلْعَامُ الرُّومِيُّ، أَوْ يَعِيشُ، أَوْ جَبْرٌ، أَوْ يَسَارٌ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي اسْمِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يُكَلِّمُونَهُمْ مَدَى أَعْمَارِهِمْ، فَهَلْ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ مَا كَانَ يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَهَلْ عُرِفَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِمَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ وَمَا مَنَعَ الْعَدُوَّ حِينَئِذٍ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِ، وَدُءُوبِ طَلَبِهِ، وَقُوَّةِ حَسَدِهِ- أَنْ يَجْلِسَ إِلَى هَذَا فَيَأْخُذَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا يُعَارِضُ بِهِ، وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى شِيعَتِهِ، كَفِعْلِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بِمَا كَانَ يُمَخْرِقُ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ كُتُبِهِ. وَلَا غَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْمِهِ، وَلَا كَثُرَتِ اخْتِلَافَاتُهُ إِلَى بِلَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَمَدَّ مِنْهُمْ، بَلْ لَمْ يَزَلْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَرْعَى فِي صِغَرِهِ، وَشَبَابِهِ، عَلَى عَادَةِ أَبْنَائِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ بِلَادِهِمْ إِلَّا فِي سَفْرَةٍ أَوْ سَفْرَتَيْنِ، لَمْ يَطُلْ فِيهِمَا مُكْثُهُ مُدَّةً يَحْتَمِلُ فِيهَا تَعْلِيمَ الْقَلِيلِ، فَكَيْفَ الْكَثِيرُ؟!. بَلْ كَانَ فِي سَفَرِهِ فِي صُحْبَةِ قَوْمِهِ، وَرِفَاقِهِ، وَعَشِيرَتِهِ، لَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ، وَلَا خَالَفَ حَالُهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ مِنْ تَعْلِيمٍ، وَاخْتِلَافٍ إِلَى حَبْرٍ أَوْ قَسٍّ، أَوْ مُنَجِّمٍ، أَوْ كَاهِنٍ. بَلْ لَوْ كَانَ هَذَا بَعْدُ كُلُّهُ لَكَانَ مَجِيءُ مَا أَتَى بِهِ مِنْ مُعْجِزِ الْقُرْآنِ قَاطِعًا لِكُلِّ عُذْرٍ، وَمُدْحِضًا لِكُلِّ حُجَّةٍ، وَمُجَلِّيًا لِكُلِّ أَمْرٍ.
وَمِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَرَامَاتِهِ، وَبَاهِرِ آيَاتِهِ أَنْبَاؤُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْجِنِّ، وَإِمْدَادِ اللَّهِ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَطَاعَةِ الْجِنِّ لَهُ، وَرُؤْيَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ} [التَّحْرِيمِ: 4] الْآيَةَ. وَقَالَ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْأَنْفَالِ: 12]. وَقَالَ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 9] الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الْأَحْقَافِ: 29] الْآيَةَ. [حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِ الْفَقِيهُ بِسَمَاعِي عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ ، أَنَا مُسْلِمٌ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ ، حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ ، سَمِعَ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ] ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النَّجْمِ: 18] قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. وَالْخَبَرُ فِي مُحَادَثَتِهِ مَعَ جِبْرِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا شَاهَدَهُ مِنْ كَثْرَتِهِمْ، وَعِظَمِ صُوَرِ بَعْضِهِمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ مَشْهُورٌ. وَقَدْ رَآهُمْ بِحَضْرَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ، فَرَأَى أَصْحَابُهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ. وَرَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمَا عِنْدَهُ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ. وَرَأَى سَعْدٌ عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ. وَمِثْلُهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَسَمِعَ بَعْضُهُمْ زَجْرَ الْمَلَائِكَةِ خَيْلَهَا يَوْمَ بَدْرٍ. وَبَعْضُهُمْ رَأَى تَطَايُرَ الرُّءُوسِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا يَرَوْنَ الضَّارِبَ. وَرَأَى أَبُو سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ يَوْمَئِذٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ، مَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ. وَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُصَافِحُ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ. وَأَرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ جِبْرِيلَ فِي الْكَعْبَةِ، فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْجِنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ، وَشَبَّهَهُمْ بِرِجَالِ الزُّطِّ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ لَمَّا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ أَخَذَ الرَّايَةَ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: «تَقَدَّمْ يَا مُصْعَبُ» فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: لَسْتُ بِمُصْعَبٍ، فَعَلِمَ أَنَّهُ مَلَكٌ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ بِيَدِهِ عَصًا، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَغَمَةُ الْجِنِّ! مَنْ أَنْتَ؟» قَالَ أَنَا هَامَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ لَاقِسَ بْنِ إِبْلِيسَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ لَقِيَ نُوحًا، وَمَنْ بَعْدَهُ... فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ قَتْلَ خَالِدٍ عِنْدَ هَدْمِهِ الْعُزَّى لِلسَّوْدَاءِ الَّتِي خَرَجَتْ لَهُ نَاشِرَةً شَعْرَهَا عُرْيَانَةً، فَجَزَلَهَا بِسَيْفِهِ، وَأَعْلَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «تِلْكَ الْعُزَّى». وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ شَيْطَانًا تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35]. فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا». وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ، وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنِ الرُّهْبَانِ، وَالْأَحْبَارِ، وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ صِفَتِهِ، وَصِفَةِ أُمَّتِهِ، وَاسْمِهِ، وَعَلَامَاتِهِ، وَذِكْرِ الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ، مِنْ شِعْرِ تُبَّعٍ، وَالْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ، وَكَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَسُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، وَقَسِّ بْنِ سَاعِدَةَ. وَمَا ذُكِرَ عَنْ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ ، وَغَيْرِهِمْ، وَمَا عَرَّفَ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَ ، وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ ، ، وَعَثْكَلَانُ الْحِمْيَرِيُّ ، وَعُلَمَاءُ يَهُودَ، وَشَامُولُ عَالِمُهُمْ صَاحِبُ تُبَّعٍ مِنْ صِفَتِهِ، وَخَبَرِهِ. وَمَا أُلْفِيَ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ مِمَّا قَدْ جَمَعَهُ الْعُلَمَاءُ، وَبَيَّنُوهُ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمَا ثِقَاةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، مِثْلُ ابْنِ سَلَامٍ ، ، وَبَنِي سَعْيَةَ ، ، وَابْنِ يَامِينَ ، ، وَمُخَيْرِيقٍ ، ، وَكَعْبٍ ، وَأَشْبَاهِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَاءِ يَهُودَ، وَبَحِيرَا، وَنَسْطُورِ الْحَبَشَةِ، وَصَاحِبِ بُصَرَى، وَضَغَاطِرَ، وَأُسْقُفِ الشَّامِ، وَالْجَارُودِ، وَسَلْمَانَ، وَالنَّجَاشِيِّ، وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ، وَأَسَاقِفِ نَجْرَانَ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى. وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ هِرَقْلُ، وَصَاحِبُ رُومَةَ عَالِمَا النَّصَارَى، وَرَئِيسَاهُمْ، وَمُقَوْقِسُ صَاحِبُ مِصْرَ، وَالشَّيْخُ صَاحِبُهُ، وَابْنُ صُورِيَا، وَابْنُ أَخْطَبَ، وَأَخُوهُ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَاطِيَا، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، مِمَّنْ حَمَلَهُ الْحَسَدُ، وَالنَّفَاسَةُ عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى الشَّقَاءِ. وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ لَا تَنْحَصِرُ. وَقَدْ قَرَّعَ أَسْمَاعَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَصِفَةِ أَصْحَابِهِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ صُحُفُهُمْ، وَذَمَّهُمْ بِتَحْرِيفِ ذَلِكَ، وَكِتْمَانِهِ وَلَيِّهِمْ أَلْسِنَتَهُمْ بِبَيَانِ أَمْرِهِ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ عَلَى الْكَاذِبِ، فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ نَفَرَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَإِبْدَاءِ مَا أَلْزَمَهُمْ مِنْ كُتُبِهِمْ إِظْهَارَهُ. وَلَوْ وَجَدُوا خِلَافَ قَوْلِهِ لَكَانَ إِظْهَارُهُ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَذْلِ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ، وَنَبْذِ الْقِتَالِ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ: {حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 93] إِلَى مَا أَنْذَرَ بِهِ الْكُهَّانُ مِثْلُ شَافِعِ بْنِ كُلَيْبٍ، وَشِقٍّ، وَسَطِيحٍ، وَسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ، وَخُنَافِرٍ، وَأَفْعَى نَجْرَانَ، وَجَذْلِ بْنِ جَذْلٍ الْكِنْدِيِّ، وَابْنِ خَلَصَةَ الدَّوْسِيِّ، وَسَعْدِ بْنِ بِنْتِ كُرَيْزٍ، وَفَاطِمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ، وَمَنْ لَا يَنْعَدُّ كَثْرَةً. إِلَى مَا ظَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ نُبُوَّتِهِ، وَحُلُولِ وَقْتِ رِسَالَتِهِ، وَسُمِعَ مِنْ هَوَاتِفِ الْجَانِّ وَمِنْ ذَبَائِحَ النُّصُبِ، وَأَجْوَافِ الصُّوَرِ، وَمَا وُجِدَ مِنَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ مَكْتُوبًا فِي الْحِجَارَةِ، وَالْقُبُورِ بِالْخَطِّ الْقَدِيمِ مَا أَكْثَرَهُ مَشْهُورٌ، وَإِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مَذْكُورٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ، وَمَا حَكَتْهُ أُمُّهُ، وَمَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْعَجَائِبِ، وَكَوْنُهُ رَافِعًا رَأْسَهُ عِنْدَمَا وَضَعَتْهُ شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَمَا رَأَتْهُ مِنَ النُّورِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُ، عِنْدَ وِلَادَتِهِ، وَمَا رَأَتْهُ إِذْ ذَاكَ أُمُّ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ مِنْ تَدَلِّي النُّجُومِ، وَظُهُورِ النُّورِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، حَتَّى مَا تَنْظُرُ إِلَّا النُّورَ. وَقَوْلِ الشِّفَاءِ أُمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَمَّا سَقَطَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَدَيَّ، وَاسْتَهَلَّ سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، وَأَضَاءَ لِي مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ، وَالْمَغْرِبِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى قُصُورِ الرُّومِ. وَمَا تَعَرَّفَتْ بِهِ حَلِيمَةُ، وَزَوْجُهَا ظِئْرَاهُ مِنْ بَرَكَتِهِ، وَدُرُورِ لَبَنِهَا لَهُ، وَلَبَنِ شَارِفِهَا، وَخِصْبِ غَنَمِهِ، وَسُرْعَةِ شَبَابِهِ، وَحُسْنِ نَشْأَتِهِ. وَمَا جَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ، مِنَ ارْتِجَاجِ إِيوَانِ كِسْرَى، وَسُقُوطِ شُرُفَاتِهِ، وَغَيْضِ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، وَخُمُودِ نَارِ فَارِسَ، وَكَانَ لَهَا أَلْفُ عَامٍ لَمْ تَخْمَدْ. وَأَنَّهُ كَانَ إِذَا أَكَلَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَآلِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ شَبِعُوا، وَرَوُوا، فَإِذَا غَابَ فَأَكَلُوا فِي غَيْبَتِهِ لَمْ يَشْبَعُوا. وَكَانَ سَائِرُ وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ يُصْبِحُونَ شُعْثًا، وَيُصْبِحُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَقِيلًا دَهِينًا كَحِيلًا. قَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ حَاضِنَتُهُ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا جُوعًا قَطُّ، وَلَا عَطَشًا صَغِيرًا، وَلَا كَبِيرًا. وَمِنْ ذَلِكَ حِرَاسَةُ السَّمَاءِ بِالشُّهُبِ، وَقَطْعِ رَصْدِ الشَّيَاطِينِ، وَمَنْعِهِمِ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ. وَمَا نَشَأَ عَلَيْهِ مِنْ بُغْضِ الْأَصْنَامِ، وَالْعِفَّةِ عَنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَمَاهُ حَتَّى فِي سَتْرِهِ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، إِذْ أَخَذَ إِزَارَهُ لِيَجْعَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَتَعَرَّى، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى رَدَّ إِزَارَهُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: مَا بَالُكَ؟ فَقَالَ: «إِنِّي قَدْ نُهِيتُ عَنِ التَّعَرِّي». وَمِنْ ذَلِكَ إِظْلَالُ اللَّهِ لَهُ بِالْغَمَامِ فِي سَفَرِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ خَدِيجَةَ، وَنِسَاءَهَا رَأَيْنَهُ لَمَّا قَدِمَ، وَمَلَكَانِ يُظِلَّانِهِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِمَيْسَرَةَ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُنْذُ خَرَجَ مَعَهُ فِي سَفَرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَلِيمَةَ رَأَتْ غَمَامَةً تُظِلُّهُ، وَهُوَ عِنْدَهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ تَحْتَ شَجَرَةٍ يَابِسَةٍ، فَاعْشَوْشَبَ مَا حَوْلَهَا، وَأَيْنَعَتْ هِيَ فَأَشْرَقَتْ، وَتَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَغْصَانُهَا بِمَحْضَرِ مَنْ رَآهُ. وَمَيْلُ فَيْءِ الشَّجَرَةِ إِلَيْهِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ حَتَّى أَظَلَّتْهُ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لَا ظِلَّ لِشَخْصِيَّتِهِ فِي شَمْسٍ، وَلَا قَمَرٍ، لِأَنَّهُ كَانَ نُورًا. وَأَنَّ الذُّبَابَ كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَا ثِيَابِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَحْبِيبُ الْخَلْوَةِ إِلَيْهِ حَتَّى أُوحِيَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِعْلَامُهُ بِمَوْتِهِ، وَدُنُوِّ أَجَلِهِ، وَأَنَّ قَبْرَهُ فِي الْمَدِينَةِ، وَفِي بَيْتِهِ، وَأَنَّ بَيْنَ بَيْتِهِ وَمِنْبَرِهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَتَخْيِيرُ اللَّهِ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْوَفَاةِ مِنْ كَرَامَاتِهِ، وَتَشْرِيفِهِ، وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى جَسَدِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ فِي بَعْضِهَا. وَاسْتِئْذَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ عَلَى غَيْرِهِ قَبْلَهُ. وَنِدَاؤُهُمُ الَّذِي سَمِعُوهُ أَلَّا يَنْزِعُوا الْقَمِيصَ عَنْهُ عِنْدَ غُسْلِهِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ تَعْزِيَةِ الْخَضِرِ، وَالْمَلَائِكَةِ أَهْلَ بَيْتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ. إِلَى مَا ظَهَرَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَبَرَكَتِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَمَوْتِهِ، كَاسْتِسْقَاءِ عُمَرَ بِعَمِّهِ، وَتَبَرُّكِ غَيْرِ وَاحِدٍ بِذُرِّيَّتِهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ-: قَدْ أَتَيْنَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى نُكَتٍ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَاضِحَةٍ، وَجُمَلٍ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ مُقْنِعَةٍ، فِي وَاحِدٍ مِنْهَا الْكِفَايَةُ، وَالْغُنْيَةُ، وَتَرَكْنَا الْكَثِيرَ سِوَى مَا ذَكَرْنَا، وَاقْتَصَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ عَلَى عَيْنِ الْغَرَضِ، وَفَصِّ الْمَقْصِدِ، وَمِنْ كَثِيرِ الْأَحَادِيثِ، وَغَرِيبِهَا عَلَى مَا صَحَّ، وَاشْتَهَرَ إِلَّا يَسِيرًا مِنْ غَرِيبِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ مَشَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ، وَحَذَفْنَا الْإِسْنَادَ فِي جُمْهُورِهَا، طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ. وَبِحَسْبِ هَذَا الْبَابِ لَوْ تُقُصِّيَ أَنْ يَكُونَ دِيوَانًا جَامِعًا يَشْتَمِلُ عَلَى مُجَلَّدَاتٍ عِدَّةٍ. وَمُعْجِزَاتُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهَرُ مِنْ سَائِرِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَتُهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا وَعِنْدَ نَبِيِّنَا مِثْلُهَا، أَوْ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهَا. وَقَدْ نَبَّهَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَرَدْتَهُ فَتَأَمَّلْ فُصُولَ هَذَا الْبَابِ، وَمُعْجِزَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَقِفْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا كَوْنُهَا كَثِيرَةً فَهَذَا الْقُرْآنُ وَكُلُّهُ مُعْجِزٌ، وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ الْإِعْجَازُ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ سُورَةُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الْكَوْثَرِ: 1]، أَوْ آيَةٌ فِي قَدْرِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهُ كَيْفَ كَانَتْ مُعْجِزَةً. وَزَادَ آخَرُونَ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُنْتَظِمَةٍ مِنْهُ مُعْجِزَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ. وَالْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ} [الْبَقَرَةِ: 23]، فَهُوَ أَقَلُّ مَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ، مَعَ مَا يَنْصُرُ هَذَا مِنْ نَظَرٍ، وَتَحْقِيقٍ يَطُولُ بَسْطُهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلِمَاتِ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَنَيِّفٍ، عَلَى عَدَدِ بَعْضِهِمْ، وَعَدَدِ كَلِمَاتِ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الْكَوْثَرِ: 1] عَشْرُ كَلِمَاتٍ، فَتُجْزِئُ الْقُرْآنَ عَلَى نِسْبَةِ عَدَدِ كَلِمَاتِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أَزِيدُ مِنْ سَبْعَةِ آلَافِ جُزْءٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ. ثُمَّ إِعْجَازُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بِوَجْهَيْنِ: طَرِيقُ بَلَاغَتِهِ، وَطَرِيقُ نَظْمِهِ، فَصَارَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ مُعْجِزَتَانِ فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ فِيهِ وُجُوهُ إِعْجَازٍ أُخَرُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِعُلُومِ الْغَيْبِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذِهِ التَّجْزِئَةِ الْخَبَرُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْغَيْبِ، كُلُّ خَبَرٍ مِنْهَا بِنَفْسِهِ مُعْجِزٌ، فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ كَرَّةً أُخْرَى. ثُمَّ وُجُوهُ الْإِعْجَازِ الْأُخَرُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تُوجِبُ التَّضْعِيفَ، هَذَا فِي حَقِّ الْقُرْآنِ فَلَا يَكَادُ يَأْخُذُ الْعَدُّ مُعْجِزَاتِهِ، وَلَا يَحْوِي الْحَصْرُ بَرَاهِينَهُ. ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ، وَالْأَخْبَارُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ، وَعَمَّا دَلَّ عَلَى أَمْرِهِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى جُمَلِهِ يَبْلُغُ نَحْوًا مِنْ هَذَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: وُضُوحُ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ كَانَتْ بِقَدْرِ هِمَمِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَبِحَسْبِ الْفَنِّ الَّذِي سَمَا فِيهِ قَرْنُهُ. فَلَمَّا كَانَ مُوسَى غَايَةُ عِلْمِ أَهْلِهِ السِّحْرُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُوسَى بِمُعْجِزَةٍ تُشْبِهُ مَا يَدَّعُونَ قُدْرَتَهُمْ عَلَيْهِ، فَجَاءَهُمْ مِنْهَا مَا خَرَقَ عَادَتَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِمْ، وَأَبْطَلَ سِحْرَهُمْ. وَكَذَلِكَ زَمَنُ عِيسَى أَغْنَى مَا كَانَ الطِّبُّ، وَأَوْفَرُ مَا كَانَ أَهْلُهُ، فَجَاءَهُمْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَأَتَاهُمْ مَا لَمْ يَحْتَسِبُوهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ، وَالْأَبْرَصِ دُونَ مُعَالَجَةٍ، وَلَا طِبٍّ. وَهَكَذَا سَائِرُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجُمْلَةُ مَعَارِفِ الْعَرَبِ، وَعُلُومِهَا أَرْبَعَةٌ: الْبَلَاغَةُ، وَالشِّعْرُ، وَالْخَبَرُ، وَالْكِهَانَةُ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْخَارِقَ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، فُصُولٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَالْإِيجَازِ، وَالْبَلَاغَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ نَمَطِ كَلَامِهِمْ، وَمِنَ النَّظْمِ الْغَرِيبِ، وَالْأُسْلُوبِ الْعَجِيبِ الَّذِي لَمْ يَهْتَدُوا فِي الْمَنْظُومِ إِلَى طَرِيقِهِ، وَلَا عَلِمُوا فِي أَسَالِيبِ الْأَوْزَانِ مَنْهَجَهُ، وَمِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْكَوَائِنِ، وَالْحَوَادِثِ، وَالْأَسْرَارِ، وَالْمُخَبَّآتِ، وَالضَّمَائِرِ، فَتُوجَدُ عَلَى مَا كَانَتْ، وَيَعْتَرِفُ الْمُخْبَرُ عَنْهَا بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَصِدْقِهِ، وَإِنْ كَانَ أَعْدَى الْعَدُوِّ. فَأَبْطَلَ الْكِهَانَةَ الَّتِي تَصْدُقُ مَرَّةً، وَتَكْذِبُ عَشْرًا، ثُمَّ اجْتَثَّهَا مِنْ أَصْلِهَا بِرَجْمِ الشُّهُبِ، وَرَصْدِ النُّجُومِ. وَجَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ، وَأَنْبَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ، وَالْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ مَا يَعْجِزُ مَنْ تَفَرَّغَ لِهَذَا الْعِلْمِ عَنْ بَعْضِهِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَسَطْنَاهَا، وَبَيَّنَّا الْمُعْجِزَ فِيهَا. ثُمَّ بَقِيَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الْجَامِعَةُ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَى الْفُصُولِ الْأُخَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ ثَابِتَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَيِّنَةَ الْحُجَّةِ لِكُلِّ أُمَّةٍ تَأْتِي، لَا يَخْفَى وُجُوهُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَظَرَ فِيهِ، وَتَأَمَّلَ وُجُوهَ إِعْجَازِهِ. إِلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ، فَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ، وَلَا زَمَنٌ إِلَّا يَظْهَرُ فِيهِ صِدْقُهُ بِظُهُورِ مُخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ، فَيَتَجَدَّدُ الْإِيمَانُ وَيَتَظَاهَرُ الْبُرْهَانُ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ كَمَا قِيلَ. وَلِلْمُشَاهَدَةِ زِيَادَةٌ فِي الْيَقِينِ، وَالنَّفْسُ أَشُدُّ طُمَأْنِينَةً إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ مِنْهَا إِلَى عِلْمِ الْيَقِينِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ عِنْدَهَا حَقًّا. وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِهِمْ، وَعُدِمَتْ بِعَدَمِ ذَوَاتِهَا، وَمُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبِيدُ، وَلَا تَنْقَطِعُ، وَآيَاتُهُ تَتَجَدَّدُ، وَلَا تَضْمَحِلُّ، وَلِهَذَا أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِيمَا [حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ ، حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ]، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَظُهُورِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَعْنَى آخَرَ مِنْ ظُهُورِهَا بِكَوْنِهَا وَحْيًا، وَكَلَامًا لَا يُمْكِنُ التَّخْيِيلُ فِيهِ، وَلَا التَّخَيُّلُ عَلَيْهِ، وَلَا التَّشْبِيهُ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ قَدْ رَامَ الْمُعَانِدُونَ لَهَا بِأَشْيَاءَ طَمِعُوا فِي التَّخْيِيلِ بِهَا عَلَى الضُّعَفَاءِ كَإِلْقَاءِ السَّحَرَةِ حِبَالَهُمْ، وَعِصِيَّهُمْ، وَشِبْهُ هَذَا مِمَّا يُخَيِّلُهُ السَّاحِرُ، أَوْ يَتَحَيَّلُ فِيهِ. وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَيْسَ لِلْحِيلَةِ، وَلَا لِلسِّحْرِ، وَلَا التَّخْيِيلِ فِيهِ عَمَلٌ، فَكَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ أَظْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، كَمَا لَا يَتِمُّ لِشَاعِرٍ، وَلَا لِخَطِيبٍ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا، أَوْ خَطِيبًا بِضَرْبٍ مِنَ الْحِيَلِ، وَالتَّمْوِيهِ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَخْلَصُ، وَأَرْضَى. وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ الثَّانِي مَا نُغَمِّضُ عَلَيْهِ الْجَفْنَ، وَنُغْضِي. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِالصِّرْفَةِ، وَأَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَانَتْ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ، فَصُرِفُوا عَنْهَا، أَوْ عَلَى أَحَدِ مَذْهَبَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلُ، وَلَا يَكُونُ بَعْدُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّرْهُمْ عَلَيْهِ. وَبَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فَرْقٌ بَيِّنٌ، وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَتَتْرُكُ الْعَرَبُ الْإِتْيَانَ بِمَا فِي مَقْدُورِهِمْ، أَوْ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ، وَرِضَاهُمْ بِالْبَلَاءِ، وَالْجَلَاءِ، وَالسِّبَاءِ، وَالْإِذْلَالِ، وَتَغْيِيرِ الْحَالِ، وَسَلْبِ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالتَّقْرِيعِ، وَالتَّوْبِيخِ، وَالتَّعْجِيزِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَالْوَعِيدِ أَبْيَنُ آيَةً لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَالنُّكُولِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَأَنَّهُمْ مُنِعُوا عَنْ شَيْءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ ، وَغَيْرُهُ قَالَ: وَهَذَا عِنْدَنَا أَبْلَغُ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْأَفْعَالِ الْبَدِيعَةِ فِي أَنْفُسِهَا، كَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً، وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى بَالِ النَّاظِرِ بِدَارًا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اخْتِصَاصِ صَاحِبِ ذَلِكَ بِمَزِيَّةِ مَعْرِفَةٍ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ، وَفَضْلِ عِلْمٍ إِلَى أَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ صَحِيحُ النَّظَرِ. وَأَمَّا التَّحَدِّي لِلْخَلَائِقِ مِئِينَ مِنَ السِّنِينَ بِكَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِهِمْ لِيَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَلَمْ يَأْتُوا، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ عَدِمِهَا إِلَّا أَنْ مَنَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَنْهَا بِمَثَابَةِ مَا لَوْ قَالَ نَبِيٌّ: آيَتِي أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ الْقِيَامَ عَنِ النَّاسِ مَعَ مَقْدِرَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَارْتِفَاعِ الزَّمَانَةِ عَنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ، وَعَجَّزَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْقِيَامِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَبْصَرِ آيَةٍ، وَأَظْهَرِ دَلَالَةٍ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ غَابَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَجْهُ ظُهُورِ آيَتِهِ عَلَى سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى احْتَاجَ لِلْعُذْرِ عَنْ ذَلِكَ بِدِقَّةِ أَفْهَامِ الْعَرَبِ، وَذَكَاءِ أَلْبَابِهَا، وَوُفُورِ عُقُولِهَا، وَأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا الْمُعْجِزَةَ فِيهِ بِفِطْنَتِهِمْ، وَجَاءَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ إِدْرَاكِهِمْ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْقِبْطِ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ السَّبِيلِ، بَلْ كَانُوا مِنَ الْغَبَاوَةِ، وَقِلَّةِ الْفِطْنَةِ بِحَيْثُ جَوَّزَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَجَوَّزَ عَلَيْهِمُ السَّامِرِيُّ ذَلِكَ فِي الْعِجْلِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَعَبَدُوا الْمَسِيحَ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صَلْبِهِ} وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النِّسَاءِ: 157]، فَجَاءَتْهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَيِّنَةِ لِلْأَبْصَارِ بِقَدْرِ غِلَظِ أَفْهَامِهِمْ مَا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ، وَمَعَ هَذَا فَقَالُوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ} [الْبَقَرَةِ: 55]. وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الْمَنِّ، وَالسَّلْوَى، وَاسْتَبْدَلُوا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَالْعَرَبُ عَلَى جَاهِلِيَّتِهَا أَكْثَرُهَا يَعْتَرِفُ بِالصَّانِعِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَتَقَرَّبُ بِالْأَصْنَامِ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ مِنْ قَبْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ عَقْلِهِ، وَصَفَاءِ لُبِّهِ. وَلَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ بِكِتَابِ اللَّهِ فَهِمُوا حِكْمَتَهُ، وَتَبَيَّنُوا بِفَضْلِ إِدْرَاكِهِمْ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ مُعْجِزَتَهُ، فَآمَنُوا بِهِ، وَازْدَادُوا كُلَّ يَوْمٍ إِيمَانًا، وَرَفَضُوا الدُّنْيَا كُلَّهَا فِي صُحْبَتِهِ، وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَقَتَلُوا آبَاءَهُمْ، وَأَبْنَاءَهُمْ فِي نُصْرَتِهِ، وَأُتِيَ فِي مَعْنَى هَذَا بِمَا يَلُوحُ لَهُ رَوْنَقٌ، وَيُعْجِبُ مِنْهُ زِبْرِجٌ لَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَحُقِّقَ، لَكُنَّا قَدَّمْنَا مِنْ بَيَانِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظُهُورِهَا مَا يُغْنِي عَنْ رُكُوبِ بُطُونِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ، وَظُهُورِهَا. وَبِاللَّهِ أَسْتَعِينُ. وَهُوَ حَسْبِي، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ- وَفَّقَهُ اللَّهُ-: وَهَذَا قِسْمٌ لَخَّصْنَا فِيهِ الْكَلَامَ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَمَجْمُوعُهَا فِي وُجُوبِ تَصْدِيقِهِ، وَاتِّبَاعِهِ فِي سُنَّتِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَمُنَاصَحَتِهِ، وَتَوْقِيرِهِ، وَبِرِّهِ، وَحُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَزِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَفِيهِ خَمْسَةُ فُصُولٍ
إِذَا تَقَرَّرَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ثُبُوتُ نُبُوَّتِهِ، وَصِحَّةُ رِسَالَتِهِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَتَى بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التَّغَابُنِ: 8]. وَقَالَ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الْفَتْحِ: 8- 9]. وَقَالَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} [الْأَعْرَافِ: 158] الْآيَةَ. فَالْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ لَا يَتِمُّ إِيمَانٌ إِلَّا بِهِ، وَلَا يَصِحُّ إِسْلَامٌ إِلَّا مَعَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الْفَتْحِ: 13]. حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخُشَنِيُّ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَمْرَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: وَالْإِيمَانُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ تَصْدِيقُ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَةِ اللَّهِ لَهُ، وَتَصْدِيقُهُ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَمَا قَالَهُ، وَمُطَابَقَةُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ اللِّسَانِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ التَّصْدِيقُ بِهِ بِالْقَلْبِ، وَالنُّطْقُ بِالشَّهَادَةِ بِذَلِكَ اللِّسَانِ تَمَّ الْإِيمَانُ بِهِ، وَالتَّصْدِيقُ لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ». وَقَدْ زَادَهُ وُضُوحًا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، إِذْ قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» وَذَكَرَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» الْحَدِيثَ؛ فَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَقْدِ بِالْجَنَانِ، وَالْإِسْلَامَ بِهِ مُضْطَرٌّ إِلَى النُّطْقِ بِاللِّسَانِ. وَهَذِهِ الْحَالُ الْمَحْمُودَةُ التَّامَّةُ. وَأَمَّا الْحَالُ الْمَذْمُومَةُ فَالشَّهَادَةُ بِاللِّسَانِ دُونَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ، وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1]، أَيْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ، وَتَصْدِيقِهِمْ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَهُ، فَلَمَّا لَمْ تُصَدِّقْ ذَلِكَ ضَمَائِرُهُمْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَخَرَجُوا عَنِ اسْمِ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حُكْمُهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إِيمَانٌ وَلَحِقُوا بِالْكَافِرِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، بِإِظْهَارِ شَهَادَةِ الْإِسْلَامِ، فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَئِمَّةِ، وَحُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَحْكَامُهُمْ عَلَى الظَّوَاهِرِ، بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ عَلَامَةِ الْإِسْلَامِ، إِذْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْبَشَرِ سَبِيلٌ إِلَى السَّرَائِرِ، وَلَا أُمِرُوا بِالْبَحْثِ عَنْهَا، بَلْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحَكُّمِ عَلَيْهَا، وَذَمَّ ذَلِكَ، وَقَالَ: «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟». وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلِ، وَالْعَقْدِ مَا جُعِلَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: الشَّهَادَةُ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَالتَّصْدِيقُ مِنَ الْإِيمَانِ. وَبَقِيَتْ حَالَتَانِ أُخْرَيَانِ بَيْنَ هَذَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُصَدِّقَ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ يُخْتَرَمَ قَبْلَ اتِّسَاعِ وَقْتٍ لِلشَّهَادَةِ بِلِسَانِهِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ الْقَوْلَ، وَالشَّهَادَةَ بِهِ، وَرَآهُ بَعْضُهُمْ مُؤْمِنًا مُسْتَوْجِبًا لِلْجَنَّةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» فَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى مَا فِي الْقَلْبِ. وَهَذَا مُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ، غَيْرُ عَاصٍ، وَلَا مُفَرِّطٍ بِتَرْكِ غَيْرِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَدِّقَ بِقَلْبِهِ، وَيُطَوِّلَ مَهَلَهُ، وَعَلِمَ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَنْطِقْ بِهَا جُمْلَةً، وَلَا اسْتَشْهَدَ فِي عُمُرِهِ وَلَا مَرَّةً، فَهَذَا اخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا، فَقِيلَ: هُوَ مُؤْمِنٌ لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ، وَالشَّهَادَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ، فَهُوَ عَاصٍ بِتَرْكِهَا غَيْرُ مُخَلَّدٍ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَتَّى يُقَارِنَ عَقْدُهُ شَهَادَةَ اللِّسَانِ، إِذِ الشَّهَادَةُ إِنْشَاءُ عَقْدٍ، وَالْتِزَامُ إِيمَانٍ وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ مَعَ الْعَقْدِ وَلَا يَتِمُّ التَّصْدِيقُ مَعَ الْمُهْلَةِ إِلَّا بِهَا. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَهَذَا نَبْذٌ يُفْضِي إِلَى مُتَّسَعٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ وَأَبْوَابِهِمَا، وَفِي الزِّيَادَةِ فِيهِمَا وَالنُّقْصَانِ، وَهَلِ التَّجَزِّي مُمْتَنِعٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ لَا يَصِحُّ فِيهِ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ، أَوْ قَدْ يُعْرَضُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ، وَتَبَايُنِ حَالَاتِهِ، مِنْ قُوَّةِ يَقِينٍ، وَتَصْمِيمِ اعْتِقَادٍ، وَوُضُوحِ مَعْرِفَةٍ، وَدَوَامِ حَالَةٍ، وَحُضُورِ قَلْبٍ. وَفِي بَسْطِ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ غَرَضِ التَّأْلِيفِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا غُنْيَةٌ فِيمَا قَصَدْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ، فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَتَى بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الْأَنْفَالِ: 20]. وَقَالَ: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آلِ عِمْرَانَ: 32]. وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 132]. وَقَالَ: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النُّورِ: 54]. وَقَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّسَاءِ: 80]. وَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7]. وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ} [النِّسَاءِ: 69] الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النِّسَاءِ: 64]، فَجَعَلَ تَعَالَى طَاعَةَ رَسُولِهِ طَاعَتَهُ، وَقَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ، وَوَعَدَ عَلَى ذَلِكَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَأَوْعَدَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ بِسُوءِ الْعِقَابِ، وَأَوْجَبَ امْتِثَالَ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْأَئِمَّةُ: طَاعَةُ الرَّسُولِ فِي الْتِزَامِ سُنَّتِهِ، وَالتَّسْلِيمِ لِمَا جَاءَ بِهِ. وَقَالُوا: مَا أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا فَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ. وَقَالُوا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فِي سُنَّتِهِ يُطِعِ اللَّهَ فِي فَرَائِضِهِ. وَسُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْرِ: 7]. وَقَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ : يُقَالُ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِي فَرَائِضِهِ، وَالرَّسُولَ فِي سُنَّتِهِ، وَقِيلَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَالرَّسُولَ فِيمَا بَلَّغَكُمْ. وَيُقَالُ: أَطِيعُوا اللَّهَ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالنَّبِيَّ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ. حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابٍ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي». فَطَاعَةُ الرَّسُولِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، إِذِ اللَّهُ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ، فَطَاعَتُهُ امْتِثَالٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَطَاعَةٌ لَهُ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ فِي دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} [الْأَحْزَابِ: 66]، فَتَمَنَّوْا طَاعَتَهُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ التَّمَنِّي. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى». وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي، وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ، وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي، وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي، وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ». وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي مَثَلِهِ: «كَمَثَلِ مَنْ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ».
وَأَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ، وَامْتِثَالُ سُنَّتِهِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَقَالَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الْأَعْرَافِ: 158]. وَقَالَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}- إِلَى قَوْلِهِ- {تَسْلِيمًا} أَيْ يَنْقَادُونَ لِحُكْمِكَ، يُقَالُ: سَلَّمَ، وَاسْتَسْلَمَ، وَأَسْلَمَ، إِذَا انْقَادَ. وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الْمُمْتَحِنَةِ: 6] الْآيَةَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ : الْأُسْوَةُ فِي الرَّسُولِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَالِاتِّبَاعُ لِسُنَّتِهِ، وَتَرْكُ مُخَالَفَتِهِ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنَاهُ. وَقِيلَ: هُوَ عِتَابٌ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهُ. وَقَالَ سَهْلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَيْهِمْ} [الْفَاتِحَةِ: 7] قَالَ: بِمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، فَأَمَرَهُمْ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَوَعَدَهُمُ الِاهْتِدَاءَ بِاتِّبَاعِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى، وَدِينِ الْحَقِّ لِيُزَكِّيَهُمْ، وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيَهْدِيَهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَوَعَدَهُمْ مَحَبَّتَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَمَغْفِرَتَهُ إِذَا اتَّبَعُوهُ، وَآثَرُوهُ عَلَى أَهْوَائِهِمْ، وَمَا تَجْنَحُ إِلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، وَأَنَّ صِحَّةَ إِيمَانِهِمْ بِانْقِيَادِهِمْ لَهُ، وَرِضَاهُمْ بِحُكْمِهِ، وَتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ أَقْوَامًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُحِبُّ اللَّهَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آلِ عِمْرَانَ: 31] الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَغَيْرِهِ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَنَحْنُ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ : مَعْنَاهُ {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آلِ عِمْرَانَ: 31] أَنْ تَقْصِدُوا طَاعَتَهُ، فَافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، إِذْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ طَاعَتُهُ لَهُمَا، وَرِضَاهُ بِمَا أَمَرَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُمْ عَفْوُهُ عَنْهُمْ، وَإِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ. وَيُقَالُ: الْحُبُّ مِنَ اللَّهِ عِصْمَةٌ وَتَوْفِيقٌ، وَمِنَ الْعِبَادِ طَاعَةٌ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ! *** هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ *** إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَيُقَالُ: مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعْظِيمُهُ لَهُ، وَهَيْبَتُهُ مِنْهُ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ رَحْمَتُهُ لَهُ، وَإِرَادَتُهُ الْجَمِيلَ لَهُ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى مَدْحِهِ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ : فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْمَدْحِ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ. وَسَيَأْتِي بَعْدُ فِي ذِكْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ غَيْرُ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَصْبَغِ عِيسَى بْنُ سَهْلٍ، وَحَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ يُونُسُ بْنُ مُغِيثٍ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْجُهَنِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الْجَوْزِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ، وَحُجْرٍ الْكَلَاعِيِّ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ فِي حَدِيثِهِ فِي مَوْعِظَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». زَادَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِمَعْنَاهُ: «وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ». وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ». وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ قَوْمٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً». وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقُرْآنُ صَعْبٌ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ، وَهُوَ الْحَكَمُ، فَمَنِ اسْتَمْسَكَ بِحَدِيثِي وَفَهِمَهُ وَحَفِظَهُ جَاءَ مَعَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْقُرْآنِ وَحَدِيثِي خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، أُمِرَتْ أُمَّتِي أَنْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِي، وَيُطِيعُوا أَمْرِي، وَيَتَّبِعُوا سُنَّتِي، فَمَنْ رَضِيَ بِقَوْلِي فَقَدْ رَضِيَ بِالْقُرْآنِ». قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْرِ: 7] الْآيَةَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ». وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ». وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ الْعَبْدَ الْجَنَّةَ بِالسُّنَّةِ تَمَسَّكَ بِهَا». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ». وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ أُمَّتِي تَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً. قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي». وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحْيَانِي، وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ». وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا».
فَحَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي تَلِيدٍ الْفَقِيهُ سَمَاعًا عَلَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، وَوَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَصَلَاةَ الْحَضَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِعْمَالٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا، وَلَا تَبْدِيلُهَا، وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ خَالَفَهَا، مَنِ اقْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَنِ انْتَصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا، وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ : عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : بَلَغَنَا عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى عُمَّالِهِ بِتَعَلُّمِ السُّنَّةِ، وَالْفَرَائِضِ، وَاللَّحْنِ، أَيِ اللُّغَةِ، وَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يُجَادِلُونَكُمْ يَعْنِي بِالْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ. وَفِي خَبَرِهِ حِينَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ. وَعَنْ عَلِيٍّ حِينَ صَلَّى، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: تَرَى أَنِّي أَنْهَى النَّاسَ عَنْهُ، وَتَفْعَلُهُ! قَالَ: لَمْ أَكُنْ أَدَعُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. وَعَنْهُ: أَلَا إِنِّي لَسْتُ بِنَبِيٍّ، وَلَا يُوحَى إِلَيَّ، وَلَكِنِّي أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اسْتَطَعْتُ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: الْقَصْدُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ أَبَدًا، وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ، وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إِلَّا كَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ قَدْ يَبِسَ وَرَقُهَا، فَهِيَ كَذَلِكَ إِذَا أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَتَحَاتَّ عَنْهَا وَرَقُهَا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا، فَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ، وَسُنَّةٍ، وَمُوَافَقَةِ بِدْعَةٍ، وَانْظُرُوا أَنْ يَكُونَ عَمَلُكُمْ إِنْ كَانَ اجْتِهَادًا وَاقْتِصَادًا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ. وَكَتَبَ بَعْضُ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَرَ بِحَالِ بَلَدِهِ، وَكَثْرَةِ لُصُوصِهِ، هَلْ يَأْخُذُهُمْ بِالظِّنَّةِ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: خُذْهُمْ بِالْبَيِّنَةِ، وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، فَإِنْ لَمْ يُصْلِحْهُمُ الْحَقُّ فَلَا أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ. وَعَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاءِ: 59]: أَيْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اتِّبَاعُهَا. وَقَالَ عُمَرُ ، وَنَظَرَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: إِنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ، ثُمَّ قَبَّلَهُ. وَرُئِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُدِيرُ نَاقَتَهُ فِي مَكَانٍ فَسُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ، فَفَعَلْتُهُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ : مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ. وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ : أُصُولُ مَذْهَبِنَا ثَلَاثَةٌ: الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْلَاقِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فَاطِرٍ: 10] إِنَّهُ الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا مَعَ جَمَاعَةٍ تَجَرَّدُوا، وَدَخَلُوا الْمَاءَ، فَاسْتَعْمَلْتُ الْحَدِيثَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلِ الْحَمَّامَ إِلَّا بِمِئْزَرٍ» وَلَمْ أَتَجَرَّدْ، فَرَأَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَائِلًا لِي: يَا أَحْمَدُ، أَبْشِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ بِاسْتِعْمَالِكَ السُّنَّةَ، وَجَعَلَكَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِكَ. قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ.
وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ، وَتَبْدِيلُ سُنَّتِهِ ضَلَالٌ، وَبِدْعَةٌ مُتَوَعَّدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْخِذْلَانِ وَالْعَذَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّورِ: 63]. وَقَالَ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النِّسَاءِ: 115] الْآيَةَ. حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابٍ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِمَا، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ مَسْرُورٍ الدَّبَّاغُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ]، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ... وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ، وَفِيهِ: «فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، فَأُنَادِيهِمْ: أَلَّا هَلُمَّ، أَلَّا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: فَسُحْقًا، فَسُحْقًا، فَسُحْقًا». وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». وَقَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ». وَرَوَى ابْنُ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ». زَادَ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ: «أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ». وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجِيءَ بِكِتَابٍ فِي كَتِفٍ: كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا، أَوْ قَالَ: ضَلَالًا أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، أَوْ كِتَابٍ غَيْرِ كِتَابِهِمْ»، فَنَزَلَتْ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [الْعَنْكَبُوتِ: 51] الْآيَةَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ.
الباب الثَّانِي: فِي لُزُومِ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الفصل الْأَوَّلُ: لُزُومُ صُحْبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الفصل الثَّانِي: فِي ثَوَابِ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الفصل الثَّالِثُ: فِيمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ مِنْ مَحَبَّتِهِ. الفصل الرَّابِعُ: فِي عَلَامَاتِ مَحَبَّتِهِ. الفصل الْخَامِسُ: فِي مَعْنَى الْمَحَبَّةِ. الفصل السَّادِسُ: فِي وُجُوبِ مُنَاصَحَتِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} [التَّوْبَةِ: 24] الْآيَةَ. فَكَفَى بِهَذَا حَضًّا، وَتَنْبِيهًا، وَدَلَالَةً، وَحُجَّةً عَلَى إِلْزَامِ مَحَبَّتِهِ، وَوُجُوبِ فَرْضِهَا، وَعِظَمِ خَطَرِهَا، وَاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَرَّعَ تَعَالَى مَنْ كَانَ مَالُهُ، وَأَهْلُهُ، وَوَلَدُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَأَوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التَّوْبَةِ: 24]. ثُمَّ فَسَّقَهُمْ بِتَمَامِ الْآيَةِ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ مِمَّنْ ضَلَّ، وَلَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ. حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ الْحَافِظُ فِيمَا أَجَازَنِيهِ، وَهُوَ مِمَّا قَرَأْتُهُ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَعَنْ أَنَسٍ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ، وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ». وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ». فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ». فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْآنَ يَا عُمَرُ». قَالَ سَهْلٌ : مَنْ لَمْ يَرَ وِلَايَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَيَرَى نَفْسَهُ فِي مِلْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَذُوقُ حَلَاوَةَ سُنَّتِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ» الْحَدِيثَ.
[حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابٍ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ]، عَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- - أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ، وَلَا صَوْمٍ، وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ. قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». » وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ قُدَامَةَ: هَاجَرْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَاوِلْنِي يَدَكَ أُبَايِعْكَ. فَنَاوَلَنِي يَدَهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَنَسٌ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ بِمَعْنَاهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ حَسَنٍ، وَحُسَيْنٍ، فَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّنِي، وَأَحَبَّ هَذَيْنِ، وَأَبَاهُمَا، وَأَمَّهُمَا كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي، وَمَالِي، وَإِنِّي لَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى أَجِيءَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ مَوْتِي، وَمَوْتَكَ، فَعَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنْ دَخَلْتُهَا لَا أَرَاكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النِّسَاءِ: 69] فَدَعَا بِهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: كَانَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ لَا يَطْرِفُ، فَقَالَ: «مَا بَالُكَ؟» قَالَ: بِأَبِي، وَأُمِّي! أَتَمَتَّعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْكَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رَفَعَكَ اللَّهُ بِتَفْضِيلِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «مَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ».
[حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ ، حَدَّثَنَا الْعُذْرِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ،] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ، وَمَالِهِ». وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَقَوْلُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ عَبْدَةَ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَتْ: مَا كَانَ خَالِدٌ يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ إِلَّا وَهُوَ يَذْكُرُ مِنْ شَوْقِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ يُسَمِّيهِمْ، وَيَقُولُ: هُمْ أَصْلِي، وَفَصْلِي، وَإِلَيْهِمْ يَحِنُّ قَلْبِي، طَالَ شَوْقِي، فَعَجِّلْ رَبِّ قَبْضِي إِلَيْكَ. حَتَّى يَغْلِبَهُ النَّوْمُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَإِسْلَامُ أَبِي طَالِبٍ كَانَ أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ إِسْلَامِهِ- يَعْنِي أَبَاهُ أَبَا قُحَافَةَ- وَذَلِكَ أَنَّ إِسْلَامَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ أَقَرَّ لِعَيْنِكَ. وَنَحْوَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَهُ لِلْعَبَّاسِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنْ تُسْلِمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ الْخَطَّابُ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قُتِلَ أَبُوهَا، وَأَخُوهَا، وَزَوْجُهَا يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا، هُوَ بِحَمْدِ اللَّهِ كَمَا تُحِبِّينَ. قَالَتْ: أَرِنِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ. وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كَيْفَ كَانَ حُبُّكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: كَانَ وَاللَّهِ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِنَا، وَأَوْلَادِنَا، وَآبَائِنَا، وَأُمَّهَاتِنَا، وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَإِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خَرَجَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً يَحْرُسُ النَّاسَ، فَرَأَى مِصْبَاحًا فِي بَيْتٍ، وَإِذَا عَجُوزٌ تَنْفُشُ صُوفًا، وَتَقُولُ: عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاةُ الْأَبْرَارْ *** صَلَّى عَلَيْهِ الطَّيِّبُونَ الْأَخْيَارْ قَدْ كُنْتَ قَوَّامًا بُكًا بِالْأَسْحَارْ *** يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمَنَايَا أَطْوَارْ هَلْ تَجْمَعُنِي وَحَبِيبِيَ الدَّارْ تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجَلَسَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَبْكِي، وَفِي الْحِكَايَةِ طُولٌ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَدِرَتْ رِجْلُهُ، فَقِيلَ لَهُ: اذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ يَزُلْ عَنْكَ. فَصَاحَ: يَا مُحَمَّدَاهْ! فَانْتَشَرَتْ. وَلَمَّا احْتُضِرَ بِلَالٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- نَادَتِ امْرَأَتُهُ: وَاحُزْنَاهْ! فَقَالَ: وَاطَرَبَاهْ! غَدًا أَلْقَى الْأَحِبَّهْ، مُحَمَّدًا، وَحِزْبَهْ. وَيُرْوَى أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: اكْشِفِي لِي قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَشَفَتْهُ لَهَا، فَبَكَتْ حَتَّى مَاتَتْ. وَلَمَّا أَخْرَجَ أَهْلُ مَكَّةَ زَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ عِنْدَنَا مَكَانَكَ يُضْرَبُ عُنُقُهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ فَقَالَ زَيْدٌ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ، وَإِنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا!. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَهَا بِاللَّهِ: مَا خَرَجَتْ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وَلَا رَغْبَةً بِأَرْضٍ عَنْ أَرْضٍ، وَمَا خَرَجَتْ إِلَّا حُبًّا لِلَّهِ، وَرَسُولِهِ. وَوَقَفَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- بَعْدَ قَتْلِهِ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، وَقَالَ: كُنْتَ- وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ- صَوَّامًا قَوَّامًا تُحِبُّ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ.
اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا آثَرَهُ، وَآثَرَ مُوَافَقَتَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فِي حُبِّهِ، وَكَانَ مُدَّعِيًا. فَالصَّادِقُ فِي حُبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَظْهَرُ عَلَامَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُهَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَاسْتِعْمَالُ سُنَّتِهِ، وَاتِّبَاعُ أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ فِي عُسْرِهِ، وَيُسْرِهِ، وَمَنْشَطِهِ، وَمَكْرَهِهِ، وَشَاهِدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31]. وَإِيثَارُ مَا شَرَعَهُ، وَحَضَّ عَلَيْهِ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ، وَمُوَافَقَةِ شَهْوَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الْحَشْرِ: 9]. وَإِسْخَاطُ الْعِبَادِ فِي رِضَا اللَّهِ تَعَالَى. [حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ]، قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ، وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ». ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ». فَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ كَامِلُ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَمَنْ خَالَفَهَا فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهُوَ نَاقِصُ الْمُحَبَّةِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنِ اسْمِهَا. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي حَدَّهُ فِي الْخَمْرِ فَلَعَنَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ: مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْعَنْهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ». وَمِنْ عَلَامَاتِ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثْرَةُ ذِكْرِهِ لَهُ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ ذِكْرَهُ. وَمِنْهَا كَثْرَةُ شَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ، فَكُلُّ حَبِيبٍ يُحِبُّ لِقَاءَ حَبِيبِهِ. وَفِي حَدِيثِ الْأَشْعَرِيِّينَ عِنْدَ قُدُومِهِمُ الْمَدِينَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْتَجِزُونَ: غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّةْ *** مُحَمَّدًا وَصَحْبَهْ وَتَقَدَّمَ قَوْلُ بِلَالٍ. وَمِثْلُهُ قَالَ عَمَّارٌ قَبْلَ قَتْلِهِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ. وَمِنْ عَلَامَاتِهِ مَعَ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ تَعْظِيمُهُ لَهُ، وَتَوْقِيرُهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَإِظْهَارُ الْخُشُوعِ، وَالِانْكِسَارِ مَعَ سَمَاعِ اسْمِهِ. قَالَ إِسْحَاقُ التُّجِيبِيُّ : كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ لَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا خَشَعُوا، وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ، وَبَكَوْا. وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَحَبَّةً لَهُ، وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ تَهَيُّبًا، وَتَوْقِيرًا. وَمِنْهَا مَحَبَّتُهُ لِمَنْ أَحَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ هُوَ بِسَبَبِهِ مِنْ آلِ بَيْتِهِ، وَصَحَابَتِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَعَدَاوَةُ مَنْ عَادَاهُمْ، وَبُغْضُ مَنْ أَبْغَضَهُمْ، وَسَبَّهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَحَبَّ مَنْ يُحِبُّ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا». وَفِي رِوَايَةٍ- فِي الْحَسَنِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ». وَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي، وَمَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ اللَّهَ». وَقَالَ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ». وَقَالَ فِي فَاطِمَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: «إِنَّهَا بَضْعَةٌ مِنِّي، يُغْضِبُنِي مَا أَغْضَبَهَا». وَقَالَ لِعَائِشَةَ فِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: «أَحِبِّيهِ فَإِنِّي أُحِبُّهُ». وَقَالَ: «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُهُمْ». وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ أَحَبَّ الْعَرَبَ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، فَبِالْحَقِيقَةِ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَحَبَّ كُلَّ شَيْءٍ يُحِبُّهُ». وَهَذِهِ سِيرَةُ السَّلَفِ حَتَّى فِي الْمُبَاحَاتِ، وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ. وَقَدْ قَالَ أَنَسٌ حِينَ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ: فَمَا زِلْتُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَهَذَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جَعْفَرٍ أَتَوْا سَلْمَى، وَسَأَلُوهَا أَنْ تَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا مِمَّا كَانَ يُعْجِبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السَّبْتِيَّةَ، وَيَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، إِذْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ نَحْوَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا بُغْضُ مَنْ أَبْغَضَ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ، وَمُجَانَبَةُ مَنْ خَالَفَ سُنَّتَهُ، وَابْتَدَعَ فِي دِينِهِ، وَاسْتِثْقَالَهُ كُلَّ أَمْرٍ يُخَالِفُ شَرِيعَتَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الْمُجَادَلَةِ: 22]. وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَتَلُوا أَحِبَّاءَهُمْ، وَقَاتَلُوا آبَاءَهُمْ، وَأَبْنَاءَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ. وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: لَوْ شِئْتَ لَأَتَيْتُكَ بِرَأْسِهِ- يَعْنِي أَبَاهُ. وَمِنْهَا أَنْ يُحِبَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَتَى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَدَى بِهِ، وَاهْتَدَى، وَتَخَلَّقَ بِهِ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: كَانَ خَلْقُهُ الْقُرْآنُ وَحُبُّهُ لِلْقُرْآنِ تِلَاوَتُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَتَفَهُّمُهُ. وَيُحِبُّ سُنَّتَهُ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهَا. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ حُبُّ الْقُرْآنِ، وَعَلَامَةُ حُبِّ الْقُرْآنِ حُبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَامَةُ حُبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبُّ السُّنَّةِ، وَعَلَامَةُ حُبِّ السُّنَّةِ حُبُّ الْآخِرَةِ، وَعَلَامَةُ حُبِّ الْآخِرَةِ بُغْضُ الدُّنْيَا، وَعَلَامَةُ بُغْضِ الدُّنْيَا أَلَّا يَدَّخِرَ مِنْهَا إِلَّا زَادًا، وَبُلْغَةً إِلَى الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَا يَسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْقُرْآنَ فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُحِبُّ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ. وَمِنْ عَلَامَاتِ حُبِّهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَقَتُهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَنُصْحُهُ لَهُمْ، وَسَعْيُهُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَرَفْعُ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، كَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا. وَمِنْ عَلَامَةِ تَمَامِ مَحَبَّتِهِ زُهْدُ مُدَّعِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَإِيثَارُ الْفَقْرِ، وَاتِّصَافُهُ بِهِ. وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «إِنَّ الْفَقْرَ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنْكُمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ مِنْ أَعْلَى الْوَادِي، أَوِ الْجَبَلِ إِلَى أَسْفَلِهِ». وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّكَ. فَقَالَ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا». ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِمَعْنَاهُ.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَمَحَبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَثُرَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَتْ تَرْجِعُ بِالْحَقِيقَةِ إِلَى اخْتِلَافِ مَقَالٍ، وَلَكِنَّهَا اخْتِلَافُ أَحْوَالٍ: فَقَالَ سُفْيَانُ: الْمَحَبَّةُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ الْتَفَتَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آلِ عِمْرَانَ: 31] الْآيَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَحَبَّةُ الرَّسُولِ اعْتِقَادُ نُصْرَتِهِ، وَالذَّبُّ عَنْ سُنَّتِهِ، وَالِانْقِيَادُ لَهَا، وَهَيْبَةُ مُخَالَفَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحَبَّةُ: دَوَامُ الذِّكْرِ لِلْمَحْبُوبِ. وَقَالَ آخَرُ: إِيثَارُ الْمَحْبُوبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحَبَّةُ الشَّوْقُ إِلَى الْمَحْبُوبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحَبَّةُ مُوَاطَأَةُ الْقَلْبِ لِمُرَادِ الرَّبِّ، يُحِبُّ مَا أَحَبَّ، وَيَكْرَهُ مَا كَرِهَ. وَقَالَ آخَرُ: الْمَحَبَّةُ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مُوَافِقٍ لَهُ. وَأَكْثَرُ الْعِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا. وَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْمَيْلُ إِلَى مَا يُوَافِقُ الْإِنْسَانَ وَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لَهُ إِمَّا لِاسْتِلْذَاذِهِ بِإِدْرَاكِهِ، كَحُبِّ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ، وَالْأَصْوَاتِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ اللَّذِيذَةِ، وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا كُلُّ طَبْعٍ سَلِيمٍ مَائِلٌ إِلَيْهَا لِمُوَافَقَتِهَا لَهُ، أَوْ لِاسْتِلْذَاذِهِ بِإِدْرَاكِهِ بِحَاسَّةِ عَقْلِهِ، وَقَلْبِهِ مَعَانِيَ بَاطِنَةً شَرِيفَةً، كَمَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ، وَالْعُلَمَاءِ، وَأَهْلِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْثُورِ عَنْهُمُ السِّيَرُ الْجَمِيلَةُ، وَالْأَفْعَالُ الْحَسَنَةُ، فَإِنَّ طَبْعَ الْإِنْسَانِ مَائِلٌ إِلَى الشَّغَفِ بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَبْلُغَ التَّعَصُّبُ بِقَوْمٍ لِقَوْمٍ، وَالتَّشَيُّعُ مِنْ أُمَّةٍ فِي آخَرِينَ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْجَلَاءِ عَنِ الْأَوْطَانِ وَهَتْكِ الْحُرَمِ، وَاخْتِرَامِ النُّفُوسِ، أَوْ يَكُونُ حُبُّهُ إِيَّاهُ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ مِنْ جِهَةِ إِحْسَانِهِ لَهُ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ، فَقَدْ جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا. فَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا نَظَرْتَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمْتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَحَبَّةِ: أَمَّا جَمَالُ الصُّورَةِ، وَالظَّاهِرِ، وَكَمَالُ الْأَخْلَاقِ، وَالْبَاطِنِ، فَقَدْ قَرَّرْنَا مِنْهَا قَبْلُ فِيمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ. وَأَمَّا إِحْسَانُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَى أُمَّتِهِ فَكَذَلِكَ قَدْ مَرَّ مِنْهُ فِي أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ، وَرَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِنْقَاذِهِمْ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّهُ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَرَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ، وَمُبَشِّرًا، وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ، وَالْحِكْمَةَ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَأَيُّ إِحْسَانٍ أَجَلُّ قَدْرًا، وَأَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَأَيُّ إِفْضَالٍ أَعَمُّ مَنْفَعَةً، وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ كَانَ ذَرِيعَتَهُمْ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمُنْقِذَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَدَاعِيَهَمْ إِلَى الْفَلَاحِ، وَالْكَرَامَةِ، وَوَسِيلَتَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَشَفِيعَهُمْ، وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْهُمْ، وَالشَّاهِدَ لَهُمْ، وَالْمُوجِبَ لَهُمُ الْبَقَاءَ الدَّائِمَ، وَالنَّعِيمَ السَّرْمَدَ. فَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَوْجِبٌ لِلْمَحَبَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ شَرْعًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ صَحِيحِ الْآثَارِ، وَعَادَةً، وَجِبِلَّةً بِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، لِإِفَاضَتِهِ الْإِحْسَانَ، وَعُمُومِهِ الْإِجْمَالَ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُحِبُّ مَنْ مَنَحَهُ فِي دُنْيَاهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ مَعْرُوفًا، أَوِ اسْتَنْقَذَهُ مِنْ هَلَكَةٍ، أَوْ مَضَرَّةٍ مُدَّةُ التَّأَذِّي بِهَا قَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ، فَمَنْ مَنَحَهُ مَا لَا يَبِيدُ مِنَ النَّعِيمِ، وَوَقَاهُ مَا لَا يَفْنَى مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ أَوْلَى بِالْحُبِّ. وَإِذَا كَانَ يُحَبُّ بِالطَّبْعِ مَلِكٌ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ، أَوْ حَاكِمٌ لِمَا يُؤْثَرُ مِنْ قِوَامِ طَرِيقَتِهِ، أَوْ قَاصٌّ بَعِيدُ الدَّارِ لِمَا يُشَادُ مِنْ عِلْمِهِ، أَوْ كَرَمِ شِيمَتِهِ فَمَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ عَلَى غَايَةِ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْحُبِّ، وَأَوْلَى بِالْمَيْلِ. وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ. وَذَكَرْنَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَصْرِفُ بَصَرَهُ عَنْهُ مَحَبَّةً فِيهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 91]. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ، وَرَسُولِهِ: إِذَا كَانُوا مُخْلِصِينَ مُسْلِمِينَ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ. [حَدَّثَنَا الْقَاضِي الْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ]، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ. إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ. إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ». قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ». قَالَ أَئِمَّتُنَا: النَّصِيحَةُ لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ وَاجِبَةٌ. قَالَ الْإِمَامُ سُلَيْمَانُ الْبُسْتِيُّ : النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَحْصُرُهَا. وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ الْإِخْلَاصُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُ الْعَسَلَ، إِذَا خَلَّصْتُهُ مِنْ شَمْعِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْخَفَّافُ : النُّصْحُ فِعْلُ الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ الصَّلَاحُ، وَالْمُلَاءَمَةُ، مَأْخُوذٌ مِنَ النِّصَاحِ، وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُخَاطُ بِهِ الثَّوْبُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ نَحْوَهُ. فَنَصِيحَةُ اللَّهِ تَعَالَى صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَوَصْفُهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَالرَّغْبَةُ فِي مَحَابِّهِ، وَالْبُعْدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ، وَالْإِخْلَاصُ فِي عِبَادَتِهِ. وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وَتَحْسِينُ تِلَاوَتِهِ، وَالتَّخَشُّعُ عِنْدَهُ، وَالتَّعْظِيمُ لَهُ، وَتَفَهُّمُهُ، وَالتَّفَقُّهُ فِيهِ، وَالذَّبُّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْغَالِينَ، وَطَعْنِ الْمُلْحِدِينَ. وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِذْلُ الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَنَهَى عَنْهُ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمُؤَازَرَتُهُ، وَنُصْرَتُهُ، وَحِمَايَتُهُ حَيًّا، وَمَيِّتًا، وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ، وَالذَّبِّ عَنْهَا، وَنَشْرِهَا، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَآدَابِهِ الْجَمِيلَةِ. وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ التُّجِيبِيُّ : نَصِيحَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَالِاعْتِصَامُ بِسُنَّتِهِ، وَنَشَرِهَا، وَالْحَضُّ عَلَيْهَا، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، وَإِلَيْهَا، وَإِلَى الْعَمَلِ بِهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ : مِنْ مَفْرُوضَاتِ الْقُلُوبِ اعْتِقَادُ النَّصِيحَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ ، وَغَيْرُهُ: النُّصْحُ لَهُ يَقْتَضِي نُصْحَيْنِ: نُصْحًا فِي حَيَاتِهِ، وَنُصْحًا بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَفِي حَيَاتِهِ نُصْحُ أَصْحَابِهِ لَهُ بِالنَّصْرِ، وَالْمُحَامَاةِ عَنْهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُ، وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ لَهُ، وَبَذْلِ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ دُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 23] الْآيَةَ. وَقَالَ: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الْحَشْرِ: 8] الْآيَةَ. وَأَمَّا نَصِيحَةُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَالْتِزَامُ التَّوْقِيرِ، وَالْإِجْلَالِ، وَشِدَّةُ الْمَحَبَّةِ لَهُ، وَالْمُثَابَرَةُ عَلَى تَعَلُّمِ سُنَّتِهِ، وَالتَّفَقُّهُ فِي شَرِيعَتِهِ، وَمَحَبَّةُ آلِ بَيْتِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَمُجَانَبَةُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ، وَانْحَرَفَ عَنْهَا، وَبُغْضُهُ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَالْبَحْثُ عَنْ تَعَرُّفِ أَخْلَاقِهِ، وَسِيَرِهِ، وَآدَابِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ. فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ تَكُونُ النَّصِيحَةُ إِحْدَى ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ، وَعَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِهَا كَمَا قَدَّمْنَا. وَحَكَى الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ أَحَدَ مُلُوكِ خُرَاسَانَ وَمَشَاهِيرِ الثُّوَّارِ الْمَعْرُوفَ بِالصَّفَّارِ رُئِيَ فِي النَّوْمِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي، فَقِيلَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: صَعِدْتُ ذُرْوَةَ جَبَلٍ يَوْمًا فَأَشْرَفْتُ عَلَى جُنُودِي، فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ، فَتَمَنَّيْتُ أَنِّي حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَنْتُهُ، وَنَصَرْتُهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لِي ذَلِكَ، وَغَفَرَ لِي. وَأَمَّا النُّصْحُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَطَاعَتُهُمْ فِي الْحَقِّ، وَمَعُونَتُهُمْ فِيهِ، وَأَمْرُهُمْ بِهِ، وَتَذْكِيرُهُمْ إِيَّاهُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَا غَفَلُوا عَنْهُ، وَكُتِمَ عَنْهُمْ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، وَتَضْرِيبِ النَّاسِ، وَإِفْسَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمْ. وَالنُّصْحُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إِرْشَادُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ، وَمَعُونَتُهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ بِالْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ، وَتَنْبِيهُ غَافِلِهِمْ، وَتَبْصِيرُ جَاهِلِهِمْ، وَرَفْدُ مُحْتَاجِهِمْ، وَسَتْرُ عَوْرَاتِهِمْ، وَدَفْعُ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وَجَلْبُ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمْ.
|